من مقدمة الأعمال الكاملة الهيئة المصرية العامةللكتاب 2016م

من مقدمة الأعمال الكاملة الهيئة المصرية العامةللكتاب 2016م

السبت، 13 فبراير 2016

السيدة الخضراء (طواف) 8


[  الآن فليسمع ختام الأمر كله  فى الليل  على فراشي  طلبتُ من تحبه
نفسي  طلبتهُ فما وجدتهُ  أني أقومُ وأطوفُ فى المدينة  فى
الأسواق وفى الشوارع  أطلبُ من تحبه نفسي  طلبتهُ فما وجدتهُ
وجدني الحرسُ الطائفُ فى المدينة  فقلت أرأيتم من تحبهُ
نفسي؟ تحت ظله اشتهيت أن أجلس  وثمرتهُ حلوة لحلقي
اسندوني بأقراص الزبيب  أنعشونى بالتفاح  فإني مريضة حباً
أنت جميلة يا حبيبتي ومرهبة كجيش بألوية  إلى أن يفيح النهار
وتنهزم الظلال ارجع آه... حبيبي مدَّ يده من الكوة  فأنَّت عليه
أحشائي]



طواف:
ها هو دهليز يتلو دهليزاً
سرداب يتلو سرداباً
أجنحة لملائكة بيضٍ  ترقص وترف حوالينا
شجَّرني الضوء
وبللني القطر الغياث الهاطل
وانبلج الفجر الليلي
وضخت شمس العشق أشعتها
من ينقلني من سبحات النجم
ويربط بالأحجار الغيمة؟
هدأ البحر اللجيُّ الصخاب  فمن يدخل يغرق فيه
ومن يخرج
يضرب فى الأرض جنوناً ويتوه
السيدة  الآن انكشفت
لكني لم ألمسها
لم أدنُ من شهد أنوثتها
شجَّرني ضوء يركض
ونوارس تتأبط صارية السفن الغرقي
قبرة تسكن داخل قلبي
أزهار تتفتح
تتفتق عن أكمامٍ تنضح  بعطور المسك الهوام
وحبات الريحان العابق
هذي امرأة تعرف سر أنوثتها
وتداجى الليل القناص الداغل فى لجج السهوة والنشوة
ثم تمر على أجران الملح المتكوم فى أرض البور
تصفق لعصافير البوص البري
وأعواد النعناع الأخضر
والحامول
وتقطف من سهل الحنطة  سبع سنابل خضراء
وتطعم من يتبعها
لكن
من يتبعها؟؟
من يتبعها غير عصافير الماء
وأفراس الحلم
ونخلات الضوء
أفر بعيداً عن سيدتي  علّي أبصرها
والوقت قصير جداً
فى هذا الزمن المتسلط كالسيف
أجزُّ الوقت
ومزقاً من شريان القلب
وبعضاً من أضلاعى
ثم أعرش بيتاً للسيدة الساكنة  هناك  على ضفات الأنهار
تجاه الأكواخ المبثوثة
فى قلب الأرض  وصحراء الصيف
وها هى تدنو فأراقبها
نجم فضى  يحرس خطوتها  ويتابعها
فى حركة تجوالٍ أبدي
أدنو
أدنو
أدنو
لكن الأجناد تمانعني
وتسمر خطوي بالشوك النفاذ المسنون  كجلد القنفذ
أرتد بعيداً
أتململ فى جولاتي الليلية
أتحين سهو الوقت
لكى أنسل إليها فى مخبئها الزهرى
أحادثها وتحادثني
والحراس المنتشرون كجردان القمح تراقبني
أتضور عشقاً
أتشقق كالصخر الناري بوادى الجن
حاولت مراراً أن أقفو خطوتها
أترصدها
كانت شهب مارقةً  تلمع
حارقةً  تترصدني
فأتابع تجوالي فوق الوقت المسموم المرّ
وأنعس قربٍ صخيرات الموت
وناداني صوت يهتف بي من غور السكرة فأفقت
أفقت..
كانت سيدة الضوء تُقرب مني
غشَّاني وسن قهار قاهر
فاستصرخت
وناديت عليها ما ردت
كلمت الريح النقالة  لم تسمع
وأشارت أن تدخل قلبي
فانسدت طرقٌ
وتدحرج صخر - في عرض النهر السيال -
وأعرض طير
ونأت خيل
وبقيت أساوم نفسي
ساومت
وساومت
وساومت..
اشتدت ريح عاصفة  صرصرْ
وانهمر الماء المخضوضرُ
بدماء الرمل
اجتاحت خيل مدناً  كانت ساكنة من قبلُ
وزلزلت الأرض
عيوناً  كانت تتفجر
والسيدة الخضراء  تراقبني من شرفتها الفضية
أشلاء التوت مبعثرة
تستضحك  وتلم ملاءتها البيضاء حواليها
يتقافز طير فى جلستها
جسد يرتد عليها  يخرج من صحبتها
وينادم أشجار الصبير
القائم فى وحدته
ها هى ريح من حنطتها تأتى  وتهب
فأرتد بعيداً
ينسرب الحراس
وأدخل مسكنها الصيفى
أناديها
وتناديني
كانت سنوات ميتة من قبل أراك
وأرض لم تؤت
أكلاً
طير يهجر وطناً كان يساكنه
وييمم شطر الغيم
مليكة
تفتح شرفتها لعصافير الماء
وأشجار اللؤلؤ
والنارنج المتفتح فى وقد الصيف
وتفرد شمس أشعتها كى يدخل ضوء
تتراكض أفراس الماء حواليها
وتفر فراشات كانت ساكنة فى شرنقة الصمت
وترقص حول الوجه المستعصم
بالضوء 
وها هى آخر أجناد الأرض
تفر..
مليكة
تغزلُ بيديها سرر النوم
لفارسها المتوحد بامرأةٍ يعشقها حد الموت
وأفراس الأرض
تمر..
وتتركها فى شرفتها
جالسة تترقب
وتفر الدمعات اللؤلؤ  كاشفةً
عن وجدٍ مسجورٍ
فى  غرفات القلب الملآن بوحل الأرض
وجلد الفقراء
المطروق بأسنان الشمس الحراقة
كانت ترقبني
بينا
أتهيأ لرحيلٍ فجري آتٍ
تتساءل فى دهشة طفلٍ بري
- مثل خيول الضوء
وأفراس الحلم -
ألملم بعضاً من أشجار الملح  وحبات الخروع
والنعناع الأخضر
والصبير المتطاول فوق جسور الترع المصقولة
بنباتات الماء
وأرويها بالدمع الهطال
لمزن القلب
فتكبر
وتصير قلاعاً وبلاداً
ها أنذا أرحل فى غبش الفجر
أراقب شمساً
تتفجر من خلف تلال السحب الداكنة اللون
وأربط أفراسي بطيور الماء
وأزرع بعض شجيرات الحنطة
خلف الدار المأهولة بالجوع
وأوصى بسقايتها
حتى تأتى بعض سحاباتٍ حبلى
فتساقيها
ومليكة
هذى العاشقة المعشوقة تغمزُ ليْ
ويفر يمام البر إلىّ
يحمِّلني جزءاً من غيم رسائله
يتصاهل حولي وينط
هل تشرب كأساً يا محبوبي؟
لا
أنا لا أسكر
لكنى أسكن فى نذر الوقت
وأبدأ رحلة صيفي تذكاراتٍ نحو الأهوار المسكونة بالأسماك
الخلجان  الممتدة بين البحر وبيني تذكارات
صبري تذكارات
وموتي تذكارات
وراياتي البيضاء المشرعة هنالك فوق مواني الغربة
والترحال طويلاً
تذكارات
وأشجار الحنطة
والسعد
وأوراق الحور السامق تذكارات
وشاراتي تذكارات
أنا الآخر تذكارات
اقتربت ساعة موتي
وانشق القمرالأخضر - فوق صحاري العشق العطشى -
قامتْ واستلقت
فوق أريكتها الخضراء
وها أنتَ بدأت تعاند نفسك
تدخل فى أبراج اليأس
وتخرج من أفناء الحلم
- وكان الفجر يمر علينا
يقسم بالنجم
وموطنه
يلقى بأوائله...
ثم يعاود نحو البحر مسافته -
هل تشرب شيئاً يا محبوبي
وأنا أسقيك
وأملأ كأسك من خمر النشوة  والصبوة؟
لا؟
أنا لا أشرب
لكنى أبحث عن شىٍء لم أعرفه من قبل
وأبحث عنكِ
وساقية النهر تدور
تدور
تدور
وأرضي عطشى
ومدائن قلبي
لم يغرس فيها أحد من قبل شجيرة
لم يسق أحد فيها بذرة فل
كى يستروح فيها الرحل والركبان
- فى تلك الوديان المقفرة الجمرة -
والأيل المحرور الهارب
من وقد الشمس اللسَّاع
آهٍ
قلبي يشتاق إلى نبعٍ يروي عطش الصحراء المتشقق
ما أصعب ما تطلب يا عبد الله..!!
استضحك عبد الله وغادر مرفأه
في عين الشمس الحمئة
وامتدت سفن كانت راسيةً
بموانئ آفلةٍ
وأشار إلى النخل الراسي  قرب عشيبات الحقل
أن انثر جمارك فوق الأرض البور
وأفرط من قلبك رُطباً
لجيوش النمل المخبوء بسكنات الصخر
وكحل كل عيون الفقراء بشهدك
فاهتزَّ النخل
ارتعشت أرض كانت هامدةً
وربت جزر
- يملؤها دود الوقت
وغسلين القرح -
وأوراق زهر كان يساكنه الموت
وهلل طير الوقواق على مدنٍ كادت تنسى فى حضن الشمس
النوارة
ثم أشار إلى الريح
بأن تدنو
وتلاقح أعواد الحنطة
وشجيرات الجميز
وأزهار الليمون
اندفعت ريح صافية حبلى
فوق شواشي النخل
اندلعت نيران الصحو
فأروق فى عتبات الجسد/الموت
النور المتهدل من جنبات الغيم
وها هى ريح تغشى الأرض
فيهلك نسل
وتفز رءوس تحت جدار البحر العاطش
وأشار إلى النار
بأن تفرد فوق الأرض
ملاءتها
سحب راكضة
نزلتْ
فوق بلادٍ آفلةٍ
وامتدت شرفات الحلم
على أجران القمح المنثور بأحراش السهل
وها هى مدن تطوى
يعروها
شبق
فتاك
للضوء المارق
من يمسك بشرار النار
ويحمل فى القلب مسرتها
ويصاحب ومضاً لبروق الليل
الدفاقة
حتى يغدو أفقاً
من صيفٍ
فوق بلاد الجوع الصائف؟
ثم يعاود رحلته
منتظراً
أن تأتى هذى السيدة الخضراء
تبلل عطشاً
يتشقق كالجرح
وجرحاً يتمزق كالصخر
وها هو صرح يتمدد من لجج الماء
وفيض الياقوت الأحمر
وزمردة تتلألأ فى البهو
الصاخب
ومليكة
تدنو
تدنو..
هل شاهد عبد الله الرؤيا؟
صرح يدخل فيه
زهور تتفتق فى الجنبين
نمارق تصطف
على سُرر الماء
أباريق يحملها الولدان
فتتلألأ بالخمر المعتوق
تحط عليه النشوة
فتؤاخيها
ويؤاخيه
مليكة
هذا وقت للحب
ووقت للتوهان بأرض الصبوة والعشق
اقتربي
واقتربي
واقتربي
فاضت كأس السكرة من شفتىّ
وأورق فى أضلاعي
وقد الجمر
انشقت أرض كانت هامدةً
طلع زاهٍ
يتطاوح فى لجج الوقت
ويعلو
كمدى سرمد
اقتربي أيتها السيدة الخضراء
اقتربي
أيتها السيدة الخضراء
فعبد الله الأخضر
قد شاهد واسترق السمع
مليكة
هذى السيدة الخضراء
امرأة تعرف سر أنوثتها
وتداجي الليل القناص الداغل فى لجج السهوة
والنشوة
ثم تمر على أجران القمح المتكوم
فى أرض الجوع
تصفق لعصافير البوص البري
وأعواد النعناع الأخضر
والحامول
وتقطف من سهل الحنطة
سبع سنابل خضراء
وتطعم من يتبعها.










[ إذا امتلأت السحب مطراً  تريقه على الأرض
... فاحتمل السيل زبداً رابياً]
أبريل 1985



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق