المرأة التى قد توقد الشموع كل ليلةٍ
فى ساحة القديس بطرس الرسولْ
من أجل أن يكون الرّب رحيمًا بها فى ساعة النزع
الأخيرةِ
والتى اختفت من الكتب والتواريخ
وزوايا الأرصفة
والمعابد القديمة
وأصبحت تطوف فى الذاكرةِ بلباس النسيان
والجزع
تعرف جيدًا
أن رائحة يديها النيئتين
تشبه عرقَ شجرة الكستناء الوحيدة
التى تقف صامدة فى وجه الريحْ
وذلك رغم مرور أربع حروب داميةٍ
وعدة شتاءات لم تترك سوى
أغنيةٍ بائسةٍ لأرغن قديم
فى فناء الكنيسة
المعلقة
ولأنها تعرف الرب جيدًا
ولا تطمئن مطلقًا إلى خططه
وألاعيبه
ولا إلى ملائكته الذين يحملون فى أيديهم
البلط
والسكاكين
من أجل كافة الخطاة والمجدفين
فقد اختارت فى ساعات الندم
والحسرةِ
أن تركع على ركبتيها الإردوازيتين
وكفلها التفاحي
أمام تمثال من الرخام الأبيض
للسيدة مريم العذراءْ
كاشفةً
للتمثالِ عن كل تلك الدموع
التى تنفجر وبضراوةٍ بين الأوردةِ
والشرايين
وعاهدت السيد يسوع المسيح نفسه
على أن تهب حياتها كلها له
ودون أدنى ذرة- واحدةٍ- من ندمٍ
أو شك
وذلك قبل أن تأخذ الحرب الأخيرة حبيبها
الذى لم تعد تعرف عنه أى شىء
ولما
لم يكن يخامرها أدنى شك
فى أنه سوف يعود ذات يوم
مكللاً بالغار
والمجد
فقد ربطت على قلبها بكلماته الأخيرةِ
فقد ربطت على قلبها بكلماته الأخيرةِ
وأغنياته التى صاغها فى ساعة الوداع
ودون أن تنبس ولو بكلمة واحدة
سوى تلك الدموع البليغةِ
بطعم الألمْ
والدمْ
والكلمات التى تنحبس فى الحلقِ
كالشوك
ورغم ذلك
فقد أخذت تطلق طيورها الليلية
الأسيرة
فى كافة الأرجاء
فى انتظار أن تعود تلك الطيور
وفى منقارها الأخضر
غصن زيتونٍ
جافٍ
أو حتى تخبرها بكلمة واحدةٍ عن رجلها المحاربِ
وإذ اشتاقت في ليلةٍ من ليالي الشتاء الطويل
إلى دفء أنفاسه
وعمل يديه الحانيتين
وإلى حليب جسده الساخن
فقد ظلت واقفة أمام المذبحِ
لعشر ليالٍ
كاملةً
ودون أن يتسلل إلى قلبها الوهن
أو تنخر فى روحها الوساوس
وظلت تردّد
وبلا انقطاع
أين أنت أيها الحبيبْ
يا من اصطفيتك كلك لنفسى
كلماتك التى تركتها تحت لسانىْ
مثل بضع زيتونات جافةٍ
وعلى شفتى مثل حبة شمس
تعويذتى الخالدة
من السأمِ
واليأس
أيها الحبيب النائم تحت جلدى!
فى الليالى الحالكة مثل حَسَكةٍ
رأيتك بعين قلبى
وأسكنتك بمفردك
فى منازل الروح
العاليةِ
وفى ليالى الحصاد والصيف
أطلقت عليك نسائم محبتىْ
وأدخلتك
مثل فراشةٍ مغوية بألف فم
إلى جنات جسدى
لتأكل وتشربْ
حتى يولِّى الصيف الحارق
ويأتى الربيع الرّنان
هناك
وعلى مصبات أنهارىْ
وكافة أوديتى
جعلتك ترعى كالغزلانِ
وطيور البر
وتتنقل من غصنٍ لغصنٍ
مثل حجلٍ إلهى
واصطفيتك- كلك- لنفسى
أيها الحبيب
أيها الغريب
يا رجلى المحاربُ
يا من جعلت لك من كلماتىْ
كأس زبيب وخمرٍ
حتى أخفف عنك وطأة الزمن
وضراوة النسيان
لا تقل إنك لا تعرفنى
لا تقل إنك لا تسمعنى
ولا تقل إنك لا تحدق فى بئر روحك
الملآن بالزهر
والشمس ولا ترانى
حدقْ
حدق جيدًا
فسوف تجدنى مثل عملةٍ ذهبية من قرون ترنّ
تحت قمر مخنوق
ويشرقُ عليك وحدك
أيها الغريب
يا من أخذت العقل كله
وتجولت فى كافة معاقل الروح كالخطيئة المحببة
إلى أن تركت الجسد
يتلظى
فى انتظار أن تهطل علىّ كافة أمطارك الاستوائية
وصبوات شهواتك
الحارقة
ماذا أفعل أنا بكل هذا الجسد
الذى فقد سيطرته واتزانه
بدون عمل يديك
اللّماعتين
ووقع أنفاسك
المدربة؟!
أيها الحبيب
أيها الساكن هناك بين الجنّات
وعلى مصبات الأنهارْ
يا كل لغاتى المفردة
ويا عنقود عنبى الأحمر
لك
وحدك
سوف أهيئ سريرى الذى صنعته
من القزّ
والحكايات
وسوف أنتظرك إلى أن تكتمل دورة أيامك
ولياليك
وأرى نجوم عينيك إذ تلمعان
فى الأفق
مثل نجمة مخاتلة
أو قمرٍ
يخرج عن المدارْ
ويعود
ليقف أمام بابىْ
وتحت نافذتى
أين أنت
قل لى؟!
ولمّا سمع التمثال
تلك الدعوات الحارة
والصلوات القائمة
التى تخرج من فم السيدة كالسيل
أدرك
أن الصمت
والوقار
اللذين يحتفظ بهما لنفسه
ومنذ سنوات بعيدة
بلا طائل
فما كان منه
إلا أن نزل عن قاعدته الرخامية
وتحول إلى طائر بجناحين أزرقينِ
وفم أخضر
وطوق السيدة
بشفتيه الخَرَزِيتينِ
فيما كانت آخر الشمعات الثلاث التى أشعلتها السيدة
لنفسها
لا تزال ترسل أضواءها الساهرة
هذه الأضواءُ
التى تحولت إلى خبزٍ
وخمرٍ
وكتلٍ من دموع حمراءْ
وكأن الرب نفسه قد بدأ يتحنَّنْ وينزل من على صليبه
المعقود
فى ساحة القديس
بطرس الرسول؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق