سألوه حقاً إن كان يؤمن بآلهة أثينا
أم لا
وماذا عن كاهنة دلفى التى تقول
إن الفضاء ما هو الا قطع من زجاج مكسور
ومكعبات من اللذة
وكل تلك المرايا والأخاديد التى لا نهاية لها فى
ال هناك
والتى تملا الفضاء الغويط بالثقوب السوداء من أوله إلى
آخره
وأن السماء – فى الجوهر- تمتد إلى ما لا نهاية
والزمن يتمدد فى اللامكان
وأن الصيرورة فى الحقيقة ما هى إلا الإحساس الحى
واللاممسوك للوجود الفعال
فى الفعل الإنسانى
فاذا ما انعدم الوجود نفسه فى لحظة ما من الزمن
انعدم الزمن بالأساس
وأصبح الرمز الذى يشيرإليه الزمن
والمرموز إليه فى نفس الوقت
هو الصفر
الصفر الكبير الواضح
الذى يتوسط الدائرة من أقصاها إلى أقصاها
ويربط ما بين أجزائها المنفصلة والمتصلة
حيث كل جزء من أجزاء الدائرة
هو عنصر حى وله وجود محسوس
فى كل تلك العناصر المتموجة والفعالة
فى قلب كل تلك الدائرة
ولا يمكن للدائرة أن تتم إلا به
فإذا ما إنعدم هذا الجزء أو فُقد
إنعدمت الدائرة بالأساس
وكأن لم تكن أبداً
ولم يعد هناك سوى العدم المحض
ذلك الخفاش الكبير والوطواط الأعمى الذى يسيطر
على نقطة البدء
وحتى خط النهايات
إذ ذاك تذكر سقراط الرحلة الوحيدة والمثيرة فى حياته
والتى قام بها كجوّالٍ راسخٍ يحمل بقجته على كتفيه
وعصاه فى يده
إلى مدينة الإسكندرية
حيث قابل هناك علماء اللاهوت
وأساتذتها الكبار
فى الفلك
والهندسة
وعلوم الضوء
والكيمياء
والتحنيط
وفن الرسم
داخل المعابد والكهوف
وهناك وفى بيتٍ من الآجرّ بجوار فنارة الإسكندرية
حيث كانت تسكن هيبولينا
تلك اليونانية الشقراء التى علمته الأسس المعرفية البحتة
للجمال والهرمنيوطيقا وقالت له
إن الجمال فى الحقيقة هو إسم زائف لشئ لا وجود له
وإنما يكمن فى الذات الناظرة إلى الصورة
وهو معنى لا مبنى
لان كل شئٍ زائل وإلى نقصان
والنقص هو الأساس الوحيد للكمال
وأن العدم هو الرمز الوحيد للصيرورة
هيبولينا تلك الفاتنة اللعوب التى قابلها آلاف المرات
على نفس الدكة الخشبية
وفى نفس البيت من الآجر والقش تقريباً
الذى يطل على الميناء الذى يمتلئ بالكراكى
وطيور أبى قردان
والأغربة التى ترفرف هنا
أو هناك
على صوارى السفن البائدة
التى كانت تأتى من القسطنطينية
ولواء الإسكندرونة
وأرمينيا وآسيا الصغرى
وأذربيجان
وهى محملة باليونانيات الأسطوريات
وذخائر المعرفة
والحبشيات اللواتى كن يعملن فى الدعارة الرسمية بدون
أجرة تقريباً
وأن ما تعلمه هناك على أيدى الكهنة المصريين
وعبدة الصفر
لم يكن أقل كمالاً على الأقل من الواحد اللانهائى
والذى يسكن فى المتعدد
ويقيم فيه
فيما الحارس اللعين ساليناس قد أخذ يطعنه بالخنجر فى
خصيتيه
وراح يطفئ الشموع المتناثرة الواحدة تلو الأخرى والتى
تضئ عتمة السجن
وهو يصرخ فى وجهه
بأن يشرب البقية الباقية من الكأس
لكى تنتهى كل هذه المهزلة اللا إنسانية التى أقلقت أبناء
أثينا السوداء
وجعلتهم شيعاً وطوائفَ
وأن عليه إن هو أراد أن يخرج من هذا السجن اللعين
أن يستمع إلى كاهنة المعبد المقدسة
التى أخذت الحكمة رأساً من فم الآلهة
وبدون واسطة من أحدٍ
والتى أباحت الكافة للكافة
وجعلت المدينة الغراء ترقص وتغنى
وشعر اليونانيون إذ ذاك بأنهم فى عيد ميلاد دائم وبلا
هموم أبداً
ولم يعد يقلقهم الموت فى شئ
أو تزعجهم فكرة العدم الملعونة هذه
إلا أنه وفى هذه اللحظات
وقبل أن يتجرع القطرة الأخيرة من الكأس قال
كل مدينة تخترع آلهتها المقدسة بنفسها
سواءً كانوا من الحجر
أو من الطين
وتجد من الحجج والمبررات
ما تقنع به حتى الكلاب والقطط
وأبناء الشوارع
واللقطاء
على أن هذه الآلهة هى الصحيحة والمعبودة الوحيدة بحق
وأن غيرها من الآلهة هى الزائفة والعدوة
أنظر يا أفلاطون
كم من المحاريث قد حرثت هذه الأرض
كم من الأنبياء الكذبة
والسحرة
والعرَافين
وضاربى الدفوف قد مروا من هنا
كم من المجازر
والدماء
قد سُفكت فوق كل هذه الأرض
من أجل الآلهة
وكاهنة المعبد الشرموطة هذه
وأضاف قائلاً
الصورة تكمن فى المرآة
ولاتكمن المرآة فى الصورة
وما نحن – فى النهاية - سوى المرآة التى تعكس الصورة
فأذا ما انعدمت تلك المرآة انعدمت الصورة
وإذا ما انعدمت الصورة فلا معنى للمرآة
بالأساس
وأخذ يتجرع السّم رويداً
رويداً
إلى أن لفظ أنفاسه الآخيرة
وهو يقول
يا لها من حياة
ويا لها من صور
الحقيقة متعددة جداً ياأفلاطون!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق